فن مونتاج الحوارات في الأفلام السينمائية
مدونة المهند الكدم تهتم بالفنون و الإلهام و صناعة الأفلام
فن , فنون , الهام , صناعة أفلام , سينما , تصوير , رسم , موسيقى , تصميم , فلوق , تدوين , الثقافة , الفنون , هيئة , المهند الكدم , وزارة الثقافة , هيئة السينما , الفنون
15937
rtl,post-template-default,single,single-post,postid-15937,single-format-standard,bridge-core-2.4.8,qode-listing-3.0.2,qode-lms-3.0,ajax_fade,page_not_loaded,,qode-title-hidden,qode-child-theme-ver-1.0.0,qode-theme-ver-23.3,qode-theme-bridge,qode_header_in_grid,wpb-js-composer js-comp-ver-6.4.0,vc_responsive,elementor-default,elementor-kit-16377

فن مونتاج الحوارات

هذا المقال من كتابة الصديق المثنى كتبي و هو راوي قصة و طالب في جامعة كولومبيا بنيويورك بامكانكم متابعته على تويتر و انستغرام

تُعد الحوارات أحد الركائز الأساسية لأي فيلم سينمائي، فلا تكاد تشاهد فيلماً إلا وترى مشهداً لشخصين أو أكثر يتحدثون مع بعضهم البعض. وإن جماهير السينما والنقاد على حد سواء غالباً ما يعطون معظم الفضل لتلك المشاهد الحوارية الشيقة والتي يؤديها الممثلين بدورهم. وهذا ليس غريباً، فالحوارات والمحادثات بين الكاركترات تشغل الحيِّز الأكبر من أي فيلم. هي منبع المشاعر والأحاسيس والتي تعطي الفيلم روحاً ورونقاً وجمالا. لذا فإن الإلمام بفنها وطريقة مونتاجها من أهم المهارات التي يجب على المونتير إتقانها بشكل جيدا. وهنا رحلة قصيرة نتجول فيها في أرجاء هذا العالم وفنه.

إن الحوارات السينمائية من دون المونتاج ستكون تماماً كمشاهدة مسرحية على مسرح:

  • زاوية واحدة
  • لقطة متصلة واحدة
  • تفاعل بطريقة واحدة

 

خلال عملية إنتاج فيلم هناك ثلاثة مراحل رئيسية تؤثر في الطريقة التي سيظهر بها الفيلم:

  • المرحلة التي يُكتب فيها الفيلم
  • الطريقة التي سيُصور بها الفيلم
  • الطريقة التي يتم مونتاج الفيلم بها

 

فالمونتير يعملاً جنباً إلى جنب مع رؤية كاتب السيناريو والمخرج لتحديد طريقة المونتاج المناسبة للفيلم.

أولاً : الكتابة

فكاتب القصة يتحكم في:

  • بناء القصة والحبكة الدرامية
  • رسم معالم واضحة للشخصيات في الفيلم وطريقة تطورها
  • إعطاء كل من تلك الشخصيات انطباعات وأفكار خاصة بها، (تصرفات، علاقات، مشاكل، وتصور لكل شيء في حياتها…)

الطريقة التي تتكلم بها الشخصية، أو المشية التي يمشيها، أو حتى طريقته الغريبة في التفكير… كل تلك المواصفات والأفكار والتفاصيل التي يضعها كاتب السياريو لها علاقة مباشرة بالطريقة التي سيتم مونتاج الفيلم بها.

ثانياً: تصوير الفيلم (السينماتوغرافي)

خلال التصوير تتم محاولة تطبيق كل ما كُتِب في السيناريو ، ورغم أن أغلب هذه الأفعال والحوارات يتم تطبيها على أرض الواقع كما كانت مكتوبة، إلا أن هناك جزء قد يتغير لظروف مختلفة:

  • ربما لأوضاع التصوير وما قد يحدث في الوكيشن (من طقس، أو حادث أو غيرها …).
  • أو ربما بسبب رؤية المخرج أو المصور السينمائي DP
  • وقد يكون بسبب بعض الإرتجالات من الممثلين.
    وعلى هذا يكون المخرج قد وضع تصوراً آخر للفيلم الذي تمت كتابته. وكل تلك القرارات التي اتخاذها أثناء التصوير لها أثر على طريقة مونتاج الفيلم.

 

ثالثاً وأخيراً : مونتاج الفيلم

يبدأ المونتير ” الشخص المسؤول عن تقطيع وترتيب لقطات الفلم ” بتجميع المادة المصورة ومشاهدتها وفرزها وحينها يلاحظ مقدار المطابقة و المخالفة بين النص و التصوير، وعليه أن يوازن بين نظرة كاتب النص ونظرة المخرج بالإضافة إلى وضع نظرته وبصمته الخاصة في الفيلم.

والأمر ليس فقط في صعوبة دمج هذه النظرات بل إن هناك الكثير من المشاكل التي قد تحتاج إلى حل:

  • كمشاكل في الإستمرارية، كمتابعة دخول شخص بقدمه اليمنى عند القطع من medium shot إلى close-up.
  • وقد يكون هناك مشاكل على مستوى الأحاسيس، إذ أن المشاهد لا يضحك أو يبكي في مشهد من المفترض له ذاك، فعلى المونتير إيجاد حل لإحداث ذلك الإحساس لدى المشاهد.

 

المونتير عليه أن يفعل ذلك كله، بالإضافة لبناء إيقاع مشوق ومتسلسل للأحداث.
لذا فمن المهم على المونتير أن يكون واثقاً من نفسه، متمكناً من أدواته، ومتفهماً ومتقبلاً لجميع وجهات النظر المختلفة، ويتمتع بالقدرة على ربطها جميعاً ببعض بشكل صحيح وممتع، فعملية إخراج فيلم ناجح هي عملية تكاملية يشترك فيها الجميع.

بعض المخرجين كـ Steven Spielberg يصور كثيراً في يوم التصوير، فيعطي بذلك للمونتير المزيد من الخيارات ويتيح له تجربة أكثر من نتيجة. بينما مخرج مثل Alfred Hitchcock كان إنتقائياً جداً، فكان يصور مادة قليلة في الحوارات، ليضمن بذلك أن يقوم المونتير بمونتاج المادة تماماً على النظرة التي رسمها للعمل.
ورغم ذلك فقد كان George Tomasini – والذي قام بمونتاج 9 من أفلام هيتشكوك – متمكن جداً من التلاعب بالسرعة وبناء الإيقاع وخلق تشويق كبير حتى في المشاهد الحوارية.
وفيما يلي سنتحدث عن أهمية المونتير ودوره في كيف سيكون شكل الفيلم ..

المونتير يتحكم في العديد من الأشياء التي ستؤثر في طريقة مشاهدتنا واحساسنا في الفيلم:

– فالمونتير يختار أي لقطة تستعمل ( أي زاوية، وتكوين، ونوع اللقطة) يختار الزاوية والتكوين، سواء كانت اللقطة Long shot، medium shot أو close-up وهكذا.. وكل اختيار يعطي وانطباع واحساس مختلف، ويعطينا تصور عما يفكر به الشخص في المشهد أو يحس به.

001

– المونتير أيضاً يحدد أي (take) سيستعمل، فرغم أن المخرج قد يكون اختار اللقطة التي يفضلها، إذ قد يقرر مثلاً أن هذه اللقطة close-up تحوي أفضل أداء لهذا المشهد، و هذا جزء من العمل فقط، فكل مشهد قد تم تصويره عدة مرات، وفي كل مرة يعطي الممثلين أحاساس مختلفة ..

وقد يحتاج المونتير إلى دمج لقطتين أو أكثر ذات أحاسيس مختلفة ليحصل بذلك على شعور جديد مختلف، فمثلاً الإنتقال إلى لقطة فيها ابتسامة بعد لقطة فيها بكاء مرير يحتمل معنى قهر للألم والتفاؤل، وقد يمثل معناً للصدمة المرتبطة بالغيض أو الحسرة أو.. ، لذا كان لزاما على المونتير فهم تلك الأحاسيس ومدلولاتها.

002

Give me the chance to be wrong, So in that way I can try different things and experiment, be innovative. I think an editor needs that because to try to bring about the director’s vision you may have to take some circuitous routes editorially. Directors select the takes but editors have all the dailies. Sometimes you need a bridge, you have to get from here to here and you have to use your own initiative to get there and make it work

Michael Kahn

يقول مايكل كان، وهو مونتير رائع جداً، عمل جنباً إلى جنب مع المخرج Steven Spielberg لأكثر من ثلاثين سنة، وقد حصل على الأوسكار ثلاث مرات :

“دعوني أجرب وأخطئ، فأنا بذلك أجرب أشياء مختلفة وأبتكر أشياء جديدة. أظن أن المونتير يحتاج إلى ذلك، لأنك حتى تستطيع إظهار رؤية المخرج قد تضطر لسلك بعض الطرق الملتوية لتصل لهدفك. صحيح أن المخرج يختار اللقطة الأفضل للمشهد في نظره، ولكن المونتير لديه المادة الفلمية المصورة كاملة. وأحياناً أنت بحاجة لبناء جسر للانتقال من لقطة إلى أخرى لجعلها متوافقة.”

*عندما قام منتجي فيلم Inside out بالإعداد للفيلم، كانت Pixar “وهي الجهة المنتجة ” ترغب بإضافة شخصيات أخرى، كالكبرياء والثقة و التفاجُؤ و غيرها، ولكن بعد العديد من الدراسات والتجارب توصوا إلى أن هذه المشاعر الخمسة، الفرح (Joy) والحزن (Sadness) والخوف (Fear) والاشمئزاز (Disgust) والغضب (Anger) يمكن مزج بعضها ببعض لتكوين ما يقارب ال 27 شعوراً مختلفاً، مُعطياً نتائج وأفكار مختلفة.

003

وهذا المقال الرائع يتحدث عن حول كيف لهذه الشخصيات أن تجتمع لتنتج مشاعر أكثر

Chart: How Inside Out’s 5 emotions work together to make more feelings

– المونتير يختار من يُظهر على الشاشة:

قبل عدة أشهر كنت قد ذهبت لموعد لي في أحد المستشفيات، وخلال انتظاري على المقعد، إذا بشخص جالس بجاني يقف ويسلم على صديقه الذي رآه مصادفة.. وأنا بينهما -لا شعورياً- أخذت أنظر إلى هذا تارة وإلى الآخر تارة أخرى.. أستمع إلى المتحدث منهما تارة، وأنتقل لأنظر للمتفاجئ منهما وردات الفعل بينهما تارة أخرى.. وفجأة وبينما أن أتنقل في النظر بينهما سقط مفتاح أحدهما على الأرض محدثاً صوتاً عالياً لحظة ارتطامه، فانتقلت عيني مباشرة للمفتاح على الأرض، ثم عادت لتنظر للشخص وهو يلتقطه..

انتابتني حينها ابتسامة غريبة مصحوبةً بضحكة، وعلمت وقتها أني كنت “أمنتج” ما أريد أن تراه عيني في الحياة، فحياتنا أشبه بفيلم طويل نقوم بمونتاجه كيفما إردنا كل يوم..

وبذلك المعنى، فإن المونتير يختار من يريدنا النظر إليه، فأحياناً يختار أن يُظهر الشخص المُتحدث، وأحياناً يظهر الشخص المُستمع، وربما يقرر إظهار شيء آخر مختلف تماماً .. ومن خلال هذه الإنتقالات تظهر الحوارات للحياة ونحس بمصداقيتها، فالانتقال من شخص متحدث لآخر متحدث على التوالي يعد ملاحظاً ومملاً، إذ نفقد متعة رؤية الإنفعالات وردات الفعل بينهما والتي تعد أمراً مهماً في مونتاج الحوارات فهي ما يعطي تلك المشاهد حياة.

004

– المونتير يحدد سرعة وإيقاع المشهد، فهو يحدد متى يُبقي على لقطة معينة لجعل المشهد يطول ويتنفس، تاركاً المشاهد يرتاح ويشاهد التفاصيل بهدوء ورَوية، ومتى يقطع بسرعة ليبني لحظات حماسية وشادة للأعصاب، تجعل المشاهد منفعلاً معها بقوة.
إن الأمر أشبه بالذهاب في رحلة إلى مدينة الملاهي، إذ يمكنك جعلهم يركبون ذلك القطار اللولبي السريع الذي سيأخذ أنفاسهم، ويمكنك جعلهم يركبون لعبة الأحصنة الدوارة اللطيفة، وربما قد تريد إدخالهم في متاهة مليئة بالمرائرة والألغاز.. وهذا ما يفعله المونتير تماماً في كل مشهد.

When it comes to rhythms and pace, that’s always with the editor, because that’s what an editor is presenting to the director. A lot of what we do is rhythm and pace and feeling

Michael Kahn

يقول مايكل كان أيضا : المونتير هو الشخص الوحيد الذي يتحكم في إيقاع الأحداث وسرعة العمل، بل إن هذا هو عمل المونتير أساساً، وهو ما يقدمه للمخرج. فكل ما نفعله من عمل هو إيقاع وسرعة وإحساس.

إذاً فعلى الرغم من أن المخرج يشارك المونتير في اختيار اللقطات المناسبة للمشهد، إلا أن إيقاع العمل وسرعته هو شيئ خاص بالمونتير فهو من يتحكم في كل فريم وله القرار بين أن أيحذفه من المشهد أو يُبقيه بما يخدم القصة.

الحوارات غير الكلامية Nonverbal language

لنلقي نظرة على الكلمات “غير اللفظية” لدى الشخصية أو ما يُعرف بـ (لغة الجسد). فإنه في كثير من الأحيان تكون الأشياء التي لا تقولها الشخصية كأهمية بل وأهم مما قد يقوله أو يفعله، وكمونتير فإن عليك معرفة ذلك واستعماله في بناء القصة.
أحياناً تكتب هذه الأفعال أو المشاعر غير اللفظية في النص تحت ما يسمى “parenthetica” وأحياناً لا تكتب، ولأننا كبشر مليئون بالمشاعر فإن هناك الكثير من هذه اللحظات مخبئة، وعلى المونتير أن يجد هذه اللحظات في المادة المصورة ويستعملها بطريقة تعطي القصة حياةً ونبضاً.

People don’t always express their inner thoughts to one another. A conversation may be quite trivial, but often the eyes will reveal what a person thinks or needs
Alfred Hitchcock

يقول المخرج العظيم ألفريد هيتشكوك : “ إن الناس لا تعبر دائماً عن الأفكار التي تدور بداخلها لبعضها البعض. المحادثات والحوارات قد تكون مملة وعادية، ولكن العين في كثير من الأحيان ستكشف لك عما يفكر به الشخص أو يحتاجه.”

فالكلمات في الحوارات التي يقولها الممثل قد لا تكون بأهمية ما تقوله أفعاله أو ما تُخبر به عيناه. لذا فمهما كانت رؤية المخرج والكاتب للعمل، فإنك كمونتير تملك القوة لجعل ذلك الفيلم رائعاً، وذلك بالعمل على أداء الممثلين، عن طريق الفهم والإلمام بأهمية لغة الجسد، واستعمالها لبناء إيقاع وسرعة مناسبة، ولخلق أجواء مشوقة وممتعة للعمل.

ولنلقي هنا نظرة على بعض الأمثلة :

مثال (1) :

الفصل الأول من فيلم Inglourious Basterds والذي أخرجه Quentin Tarantino، يحكي حدث صائد اليهود “الكولونيل هانز” والذي يزور الفرنسي “بيرير” في منزله، ويكتشف أنه يهودي ويخبئ أعداء البلاد في منزله..

حين فآجئ هانز بأنه اكتشف أمر بيرير وبدأ يسرد عليه ما كان يخفيه عنه، بدت ردات فعله بالتوتر! أصبح بيرير خائفاً يترقب، وأخذت اللقطة تصبح أقرب وأقرب منه دون أن يجيب بشيئ ! وعينه تخبر بما في قلبه وشعوره بالخوف، الشيئ الذي زاد التوتر وجعل المشاهد متلهف لسماع إجابته (رغم معرفته بها من ملامح وجهه مسبقاً)..
وحين جاءت لحظة الأفصاح عن حقيقته، وباشره بسؤاله: “أنت تخبئ أعداءً في منزلك، أليس كذلك؟” كان جوابه “نعم” ذو معنى، فلحظات الترقب والإنتظار التي سبقت إقراره أعطت لتلك الكلمات قوة وثقلاً أكبر، فأصبحت دلالتها أعظم ومؤكدةً عليها..

005

مثال (2) :

 

هذا مشهد حواري من فيلم Heat عام 1995، وهو عبارة عن حوار على العشاء بين المحقق Vincent Hanna والذي يمثل دوره Al Pacino . والمجرم Neil McCauley والذي يمثل دوره Robert De Niro. المشهد عبارة عن حديث بسيط بين ممثلين بارِعَين جداً، حيث يتوعَّد كلٌ منهما الآخر بأن يواصل ماهو عليه.. فالمجرم سيواصل إجرامه، والمحقق يتوعد المجرم بإلقاء القبض عليه في حال أثار الشغب بأفعال إجرامية جديدة..

وفي هذا المشهد، يتقابل هذان الشخصان وجهاً لوجه لأول مرة. اعتمد المونتير بشكل كبير على ردات الأفعال واستخدمها لإضفاء قوة وهيبة للشخصيتين، فرغم ذكاء المحقق وقدراته الفذة على الإمساك بالمجرمين من شتى الأنواع والشغب، إلا أن المجرم كان صامتاً يستمع إليه بكل هدوء وبرودة أعصاب، وكأن نظراته الامبالية تقول للمحقق: “أنا لا أُبالي.. أنا لست كمن سبقني.. لن تمسك بي أبداً”

006

بينما كان Hanna يتحدث انتقل المونتير بقطعات متعددة على McCauley وهو يستمع وينظر إليه نظرات استخفاف وغير عابئة ! كان للمونتاج بناءً تصاعدياً محكماً، فبينما كان الأول يتكلم، انتقل المونتير للثاني وبقيت اللقطة عليه مستمعاً 5 ثواني، ثم عاد إلى المحقق وكان لايزال يتحدث ويتوعد المجرم بإلقاء القبض عليه، ثم انتقل المونتير مرة أخرى للمجرم وأبقى عليه اللقطة 8 ثواني وهو لايزال صامت وينظر للمحقق الذي لايزال يواصل حديثه، ثم عاد للمحقق ليقول بذلك كلماته الأخيرة ولينذر المجرم بشدة أنه سينهيه ويسقطه تماما، انتقل المونتير بقطع على المجرم والذي استمر في صمته 10 ثواني قبل أن يبدأ الحديث قائلاً للمحقق: “لن تقف في طريقي أبداً ولن أتردد أبداً في قتلك إذا اضطررت لذلك! ”

انظر كيف أن لحظات الصمت تلك، ولغة الجسد جعلت من تلك واقعية وأكثر مصداقية، فأصبحت تلك الحوارات أكثر إثارة وتشويق.

كيف تعلم متى تقطع؟

Nothing gets in the way of the editing process, it’s the process of you thinking. I don’t cut from what i call knowledge, i have to come into it and i have to feel it.

Michael Kahn

وهنا يقول مايكل كان: “ إن عملية المونتاج هي عملية تفكير، أنا لا أقطع من لقطة لأخرى اعتماداً على معرفه، أنا أتبع حدسي وإحساسي فقط.”

يطلق السينمائيين على المونتاج بـ ( العمل الخفي ) إذ هو شيء لا يلاحظه المشاهد في العمل! ولكنه رغم ذلك يتطلب مخيلة واسعة وإحساس عالي، حتى يندمج الناس في القصة وينسون أمر القطع والتنقلات بين اللقطات. لذا فإن كل شيء في عملية المونتاج مهم، فمكان القطع مهم، عدد القطعات مهم، وقت القطع مهم، ارتباط قطع لقطة بالأخرى أو بالصوت مهم، كما أن معرفة متى لا تقطع مهم كذلك.

ولنلقي نظرة على بعض الأمثلة ونرى وكيف اختار المونتير وقت القطع ومكانه.

مثال (1) :

فيلم Whiplash أنتج في عام 2014 وقام بمونتاجه Tom Cross

يحكي الفيلم قصة الشاب Neiman والذي يطمح لأن يصبح أفضل “عازف إيقاع جاز/ jazz drummer” يلتقي نيمان بالمدرب الموسيقي الصارم جداً Fletcher والذي لا يقبل بأدنى خطأ في الفرقة التي يقودها. ويحاول نيمان أن يثبت له بأنه الأفضل.

الفيلم موسيقي إيقاعي تدور معظم أحداثه في غرفة التدريب الموسيقية أو العرض المسرحي، وفي عالم الموسيقى يعزف الموسيقيون الأنغام إعتماداً على سرعة وعدد ضربات معينة متكررة.
وفي هذا الفيلم كان إيقاع 4/4 أي أنه كل 4 ضربات متساوية تعدل مازورة كاملة، وحينها يمكن أن يحدث تغير (سواء بإرتفاع أو انخفاظ) في اللحن أو العزف. استغل المونتير هذا الشيء لصالحه، فجعل من هذا الإيقاع مساراً يقوده في تحديد متى يقطع من لقطة لأخرى، فكان كلما عدَّ نيمان إلى 4 قطع المونتير إلى لقطة أخرى!

007

لقد استعمل الأجواء المحيطة وبيئة التصوير ليضيف ذلك المعنى للمونتاج بانياً بذلك تجانس متوازن وثيم مميز للفيلم صبَّ في قصته وفكرته.

مثال (2) :

يتميز المخرج Wes Anderson في جُل أعماله باستعماله لاستايل ( التناظر أو التماثُل Symmetrical ) والذي يقوم على أن يجعل الشخصية أو العنصر الرئيسي في منتصف الكادر تماماً، مستعيناً بمهندسي الديكور السينمائي، مقسماً بذلك الكادر إلى نصفين متشابهين جداً تماماً كالمِرآة.

Wes Anderson // Centered from kogonada on Vimeo.

في فيلمه The Grand Budapest Hotel قام المونتير Barney Pilling بالإستفادة من هذا الأسلوب وتعزيزه في المونتاج وجعل منه قائداً للقطع من لقطة لأخرى، ففي هذا المشهد مثلاً الذي يظهر فيه M. Gustave مع Zero وهما في القطار متجهين إلى لحضور جنازة Madame D. يتوقف القطار فجأة ويتم تفتيشهم والتحقق من هوياتهم.
نجد أن المونتير إذا قطع على مستر غوستا في اليمين يقطع بعدها مباشرة على زيرو في اليسار، وبنفس المدة الزمنية، وكلما اقترب الكادر من أحدهما نجده يقترب أيضاً من الآخر، ويتخلل ذلك لقطات منفردة تتوسطهما، ولو جمعنا جميع تلك اللقطات ورتبناها سنجدها تتشكل بطريقة تناظرية تماماً مثل المِرآة.

Symmetry in Wes Anderson’s Editing from Max Tohline on Vimeo.

المونتير الناجح يعيش أجواء الفيلم، يلمس عالمه، يتنفس هواءه، ويراه بعينيه وكأنه جزء من ذلك العالم، يحس ثم يقطع …

الأمر ليس أن تقطع إعتماداً على الأجواء المحيطة في الفيلم، بل إن مونتاج مشاهد الحوارات هذه ليست مرتبطةً بالمكان بقدر ما هي مرتبطة بالفكر والحالة النفسية التي تعيشها الشخصيات، وإن الكثير من “المونتيرين” لاحظوا أنهم عادة ما يقطعون من شخص لآخر في اللحظة التي يجمع ويرتب فيها الشخصية أفكاره قبل قولها.

“So it seems to me that our rate of blinking is somehow geared more to our emotional state and to the nature and frequency of our thoughts than to the atmospheric environment that we happen to find ourselves in.

The blink is either something that helps an internal separation of thought to take place, or it is an involuntary reflex accompanying the mental separation that is taking place anyway.

Walter Murch

يقول المونتير العظيم Walter Murch في كتابة In The Blink Of An Eye : “يبدو لي أن معدل ترتيب الأفكار لدينا مرتبط بأحاسيسنا ومشاعرنا وطبيعتنا وطريقتنا في التفكير أكثر من المكان أو البيئة التي نكون فيها.”

إن هذا الشيء لا يكون ظاهراً في أفعال الشخصيات ولا في أقوالها، إنه شيء يجب على المونتير الإحساس به، وكلما عمل المونتير على أعمال أكثر تولَّد لديه هذا الشعور تدريجياً، وسيصل في مرحلةٍ ما إلى أن يقطع على هذه اللحظات من دون أن يشعر.

فالمونتاج كما شبهه Murch مثل الرقص، أفضل طريقة لتعلمه هو ممارسته، وكلما مارسته أكثر تحسن رقصك “مونتاجك” أكثر.

إن مونتاج الحوارات فن كبير وبحر واسع، يحتاج لكثير من المشاهدة والتعلم، ولكل مخرج لمسته الخاصة في الحوارات، فترى هيتشكوك يتلاعب بانتقالات حادة في الكاميرا وبين الممثلين، بينما يصور تارانتينو كوادر حواراته من وجهة نظر الشخصيات في قصته، وأصبح ديفيد فينشر يبتعد عن اللقطات القريبة، ويصور حواراته من زوايا مختلفة، جيمس كاميرون، ستيڤن سبليبرغ، كريستوفر نولان، والكثير الكثير غيرهم، لكل مخرج طريقته في رواية القصة وتوجيه المصور السينمائي والمونتير لبناء واستخدام لقطات تتناسب مع رؤيته للفيلم.

من الجميل علينا معرفتها والاستفادة منها حتى نصل في يوم ما -قريباً- إلى ابتكار طُرُقنا الخاصة في تصوير هذه المشاهد، بطريقة خلابة تعكس ثقافتنا وحياتنا، نُضْفي نفح من عالمنا وحياتنا إليها.

رسالة أخيرة :

أصدقائي، إن الكاميرا ليست إلا قطعة معدنية لتثبت الصور، ومهما كنت بارعاً في استخدامها فلن يكون عملك ذا معنى مالم تضفي له أحاسيس صادقة من قلبك وتزرع فيه نبضاً من روحك. لن تتحول تلك الآلة المعدنية إلى شيء يلامسنا كبشر، مالم نُضفي إليها ما تُشاركنا به، ولا شيء أقوى وقعاً، وأكبر أثراً من مشاعر صادقة نزرعها فيه.

قال أحد الكُتاب: “إن لم يحس الكاتب بما كتبه، فلن يحس به القارؤون.” وقال الطنطاوي -رحمه الله تعالى- : ”إذا شئتم أن تذوقوا أجمل لذائذ الدنيا، وأحلى أفراح القلوب، فجودوا بالحب وبالعواطف كما تجودون بالمال.” فلا تتوقع أن نرى في فيلمك ما لم تره فيه.

تحتاج القصة إلى روح تلامسنا، تحرك فينا الدهشة، تضفي لنا على الحياة حياة، تعلمنا وتجعلنا أفضل..
فلنتفقد قلوبنا وحياتنا قبل أن نصنع أفلاماً تمثل بلادنا وهويتنا.

شكرا للمثنى على هذه المعلومات القيمة و فقد استفدت منها و استمتعت بها و اتمنى ان تكونوا كذلك .

ألهم غيرك !
21 تعليق

ضع تعليقاً

إظهار
إخفاء